فصل: سورة يس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة يس:

.تفسير الآيات (1- 12):

{يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}
هذه السورة مكية، إلا أن فرقة زعمت أن قوله: {ونكتب ما قدموا}، و{وآثارهم}، نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول، وليس زعماً صحيحاً. وقيل: إلا قوله: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله} الآية.
وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أول البقرة، قال ابن جبير هنا: إنه اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم، ودليله {إنك لمن المرسلين}. قال السيد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة ** على المودة إلا آل ياسيناً

وقال ابن عباس: معناه يا إنسان بالحبشية، وعنه هو في لغة طيء، وذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان، ويجمعونه على أياسين، فهذا منه. وقالت فرقة: يا حرف نداء، والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه. وقال الزمخشري: إن صح أن معناه يا إنسان في لغة طيء، فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين، فكثر النداء على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره، كما قالوا في القسم: م الله في أيمن الله. انتهى. والذي نقل عن العرب في تصغيرهم إنسان أنيسيان بياء بعدها ألف، فدل على أن أصله أنيسان، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها، ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين، فلا يجوز ذلك، لا أن يبنى على الضم، ولا يبقى موقوفاً، لأنه منادي مقبل عليه، مع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير، ويمتنع ذلك في حق النبوة. وقوله: كما قالوا في القسم م الله في أيمن الله، هذا قول. ومن النحويين من يقول: إن م حرف قسم وليس مبقى من أيمن. وقرئ: بفتح الياء وإمالتها محضاً، وبين اللفظين. وقرأ الجمهور: بسكون النون مدغمة في الواو؛ ومن السبعة: الكسائي، وأبو بكر، وورش، وابن عامر: مظهرة عند باقي السبعة. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى: بفتح النون. وقال قتادة: يس قسم. قال أبو حاتم: فقياس هذا القول فتح النون، كما تقول: الله لأفعلن كذا. وقال الزجاج: النصب، كأنه قال: اتل يس، وهذا على مذهب سيبويه أنه اسم للسورة. وقرأ الكلبي: بضم النون، وقال هي بلغة طيء: يا إنسان. وقرأ السماك، وابن أبي إسحاق أيضاً: بكسرها؛ قيل: والحركة لالتقاء الساكنين، فالفتح كائن طلباً للتخفيف والضم كحيث، والكسر على أصل التقائهما. وإذا قيل أنه قسم، فيجوز أن يكون معرباً بالنصب على ما قال أبو حاتم، والرفع على الابتداء نحو: أمانة الله لأقومن، والجر على إضمار حرف الجر، وهو جائز عند الكوفيين. والحكيم: إما فعيل بمعنى مفعل، كما تقول: عقدت العسل فهو عقيد: أي معقد، وإما للمبالغة من حاكم، وإما على معنى السبب، أي ذي حكمة.
{على صراط}: خبر ثان، أو في موضع الحال منه عليه السلام، أو من المرسلين، أو متعلق بالمرسلين. والصراط المستقيم: شريعة الإسلام.
وقرأ طلحة، والأشهب، وعيسى: بخلاف عنهما؛ وابن عامر، وحمزة، والكسائي: تنزيل، بالنصب على المصدر؛ وباقي السبعة، وأبو بكر، وأبو جعفر، وشيبة، والحسن، والأعرج، والأعمش: بالرفع مبتدأ محذوف، أي هو تنزيل؛ وأبو حيوة، واليزيدي، والقورصي عن أبي جعفر، وشيبة؛ بالخفض إما على البدل من القرآن، وإما على الوصف بالمصدر. {لتنذر}: متعلق بتنزيل أو بأرسلنا مضمرة. {ما أنذر}، قال عكرمة: بمعنى الذي، أي الشيء الذي أنذره آباؤهم من العذاب، فما مفعول ثان، كقوله: {إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي {ما أنذرهم آباؤهم}، والآباء على هذا هم الأقدمون من ولد إسماعيل، وكانت النذارة فيهم. و{فهم} على هذا التأويل بمعنى فإنهم، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة الواقعة صلة، فتتعلق بقوله: {إنك لمن المرسلين}. {لتنذر}، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره، فإنه غافل، أو فهو غافل. وقال قتادة: ما نافية، أي أن آباءهم لم ينذروا، فآباؤهم على هذا هم القربيون منهم، وما أنذر في موضع الصفة، أي غير منذر آباؤهم، وفهم غافلون متعلق بالنفي، أي لم ينذروا فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. وباعتبار الآباء في القدم والقرب يزول التعارض بين الإنذار ونفيه.
{لقد الحق على أكثرهم}: المشهور أن القول {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وقيل: لقد سبق في علمه وجوب العذاب. وقيل: حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبان برهانه؛ فأكثرهم لا يؤمنون بعذ ذلك. والظاهر أن قوله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} الآية هو حقيقة لا استعارة. لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون، أخبر عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار. قال ابن عطية: وقوله {فأغشناهم فهم لا يبصرون} يضعف هذا، لأن بصر الكافر يوم القيامة إنما هو حديد يرى قبح حاله. انتهى، ولا يضعف هذا. ألا ترى إلى قوله: {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً} وقوله: {قال رب لما حشرتني أعمى} وإما أن يكون قوله: {فبصرك اليوم حديد} كناية عن إدراكه ما يؤول إليه، حتى كأنه يبصره. وقال الجمهور: ذلك استعارة. قال ابن عباس، وابن إسحاق: استعارة لحالة الكفرة الذين أرادوا الرسول بسوء، جعل الله هذا لهم مثلاً في كفه إياهم عنه، ومنعهم من أذاه حين بيتوه. وقال الضحاك، والفراء: استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله، كما قال: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} وقال عكرمة: نزلت حين أراد أبو جهل ضربه بالحجر العظيم، وفي غير ذلك من المواطن، فمنعه الله؛ وهذا قريب من قول ابن عباس، فروى أن أبا جهل حمل حجراً ليدفع به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي، فانثنت يداه إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر في يده قد لزق، فما فكوه إلا بجهد، فأخذ آخر، فلما دنا من الرسول، طمس الله بصره فلم يره، فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه، فجعل الغل يكون استعارة عن منع أبي جهل وغيره في هذه القصة.
ولما كان أصحاب أبي جهل راضين بما أراد أن يفعل، فنسب ذلك إلى جمع. وقالت فرقة: استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان وحوله بينهم وبينه. قال ابن عطية: وهذا أرجح الأقوال، لأنه تعلى لما ذكر أنهم لا يؤمنون، لما سبق لهم في الأزل عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشقاوة ما حالهم معه حال المغلوين. انتهى. وقال الزمخشري: مثل تصمميهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى دعواهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رؤوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا يبصرون، إنهم متعامون عن النظر في آيات الله تعالى. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال. ألا ترى إلى قول أهل السنة استعارة لمنع الله إياهم من الإيمان؟ وقول الزمخشري مثل تصمميهم ونسبته الأفعال التي يعدها إليهم لا إلى الله. والغل ما أحاط بالعنق على معنى التعنيف والتضييق والتعذيب والأسر، ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة على معنى التعليل. والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال، لأنها هي المذكورة والمحدث عنها. قال ابن عطية: هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان، والذقن مجتمع اللحيين، فيضطر المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء، وذلك هو الإقماح، وهو نحو الأقناع في الهيئة. وقال الزمخشري: الأغلال وأصله إلى الأذقان مكزوزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي هو عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادراً من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطاطئ رأسه ويوطئ قذاله، فلا يزال مقمحاً. انتهى. وقال الفراء: القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه. وقال الزجاج نحوه قال: يقال قمح البعير رأسه عن ري وقمح هو. وقال أبو عبيدة: قمح قموحاً: رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب، والجمع قماح، ومنه قول بشر يصف ميتة أحدهم ليدفنها:
ونحن على جوانبها قعود ** نغض الطرف كالإبل القماح

وقال الليث: هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود. وقال الزجاج: للكانونين شهرا قماح، لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده، وأنشد أبو زيد بيت الهذلي:
فتى ما ابن الأعز إذا شتونا ** وحب الزاد في شهري قماح

رواه بضم القاف، وابن السكيت بكسرها، وهما لغتان. وسميا شهري قماح لكراهة كل ذي كبد شرب الماء فيه. وقال الحسن: القامح: الطافح ببصره إلى موضع قدمه.
وقال مجاهد: الرافع الرأس، الواضح يده على فيه. وقال الطبري: الضمير في فهي عائد على الأيدي، وإن لم يتقدم لها ذكر، لوضوح مكانها من المعنى، وذلك أن الغل إنما يكون في العنق مع اليدين، ولذلك سمي الغل جامعة لجمعه اليد والعنق. وأرى علي، كرم الله وجهه، الناس الأقماح، فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه. وقال الزمخشري: جعل الأقماح نتيجة قوله: {فهي إلى الأذقان}. ولو كان الضمير للأيدي، لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهراً. على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطل الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج. انتهى. وقرأ عبد الله، وعكرمة، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وحمزة، والكسائي، وابن كثير، وحفص: {سداً} بفتح السين فيهما؛ والجمهور: بالضم، وتقدم شرح السد في الكهف. وقرأ الجمهور: {فأغشيناهم} بالغين منقوطة؛ وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، وابن يعمر، وعكرمة، والنخعي، وابن سيرين، والحسن، وأبو رجاء، وزيد ابن علي، ويزيد البربري، ويزيد بن المهلب، وأبو حنيفة، وابن مقسم: بالعين من العشاء، وهو ضعف البصر، جعلنا عليها غشاوة. {وسواء عليهم} الآية: تقدّم الكلام على نظيرها تفسيراً وإعراباً في أول البقرة.
{إنما تنذر}: تقدم {لتنذر قوماً}، لكنه لما كان محتوماً عليهم أن لا يؤمنوا حتى قال: {وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}، لم يجد الإنذار لانتفاء منفعته فقال: {إنما تنذر}: أي إنذاراً ينفع من اتبع الذكر، وهو القرآن. قال قتادة: أو الوعظ. {وخشي الرحمن}: أي المتصف بالرحمة، مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه بالغيب، أي بالخلوة عند مغيب الإنسان عن غيوب البشر. ولما أحدث فيه النذارة، بشره بمغفرة لما سلف؛ {وأجر كريم} على ما أسلف من العمل الصالح، وهو الجنة.
ولما ذكر تعالى الرسالة، وهي أحد الأصول الثلاثة التي بها يصير المكلف مؤمناً، ذكر الحشر، وهو أحد الأصول الثلاثة. والثالث هو توحيد، فقال: {إنا نحن نحيي الموتى}: أي بعد مماتهم. وأبعد الحسن والضحاك في قوله: إحياؤهم: إخراجهم من الشرك إلى الإيمان. {ونكتب ما قدموا}، كناية عن المجازاة: أي ونحصي، فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء. وقرأ زر ومسروق: ويكتب ما قدموا وآثارهم بالياء مبنياً للمفعول، وما قدموا من الأعمال. وآثارهم: خطاهم إلى المساجد. وقال: السير الحسنة والسيئة. وقيل: ما قدّموا من السيئات وآثارهم من الأعمال. وقال الزمخشري: ونكتب ما أسلفوا من الأعمال الصالحات غيرها، وما هلكوا عنه من أثر حسن، كعلم علموه، وكتاب صنفوه، أو حبيس أحبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك، أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تحيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة، أو سيئة يستن بها، ونحوه قوله عز وجل: {ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخر} من آثاره. انتهى. وقرأ الجمهور: {وكل شيء} بالنصب على الاشتغال. وقرأ أبو السمال: بالرفع على الابتداء. والإمام المبين: اللوح المحفوظ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد، وقالت فرقة: أراد صحف الأعمال.

.تفسير الآيات (13- 27):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}
تقدم الكلام على {اضرب} مع المثل في قوله: {إن يضرب مثلاً ما بعوضة} والقرية: أنطاكية، فلا خلاف في قصة أصحاب القرية. {إذ جاءها المرسلون}: هم ثلاثة، جمعهم في المجيء، وإن اختلفوا في زمن المجيء. {إذا أرسلنا إليهم اثنين}. الظاهر من أرسلنا أنهم أنبياء أرسلهم الله، ويدل عليه قوله المرسل إليهم: {ما أنتم إلا بشر مثلنا}. وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله، وهذا قول ابن عباس وكعب. وقال قتادة وغيرهم من الحواريين: بعثهم عيسى عليه السلام حين رفع وصلب الذي ألقي عليه الشبه، فافترق الحواريون في الآفاق، فقص الله قصة الذين ذهبوا إلى أنطاكية، وكان أهلها عباد أصنام، صادق وصدوق، قاله وهب وكعب الأحبار. وحكى النقاش بن سمعان: ويحنا. وقال مقاتل: تومان ويونس. {فكذبوهما}، أي دعواهم إلى الله، وأخيراً بأنهما رسولا الله، {فكذبوهما فعززنا بثالث}: أي قوينا وشددنا، قاله مجاهد وابن قتيبة، وقال؛ يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب، وقال غيره: يقال المطر يعزز الأرض إذا لبدها وشدها، ويقال للأرض الصلبة القرآن، هذا على قراءة تشديد الزاي، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وأبو بكر، والمفضل، وأبان: بالتخفيف. قال أبو علي: فغلبنا. انتهى، وذلك من قولهم من عزني، وقوله تعالى: {وعزني في الخطاب} وقرأ عبد الله: بالثالث، بألف ولام، والثالث شمعون الصفا، قاله ابن عباس. وقال كعب، ووهب: شلوم؛ وقيل: يونس. وحذف مفعول فعززنا مشدداً، أي قويناهما بثالث مخففاً، فغلبناهم: أي بحجة ثالث وما يلطف به من التوصل إلى الدعاء إلى الله حتى من الملك على ما ذكر في قصتهم، وستأتي هي أو بعض منها إن شاء الله. وجاء أولاً مرسلون بغير لام لأنه ابتداء إخبار، فلا يحتاج إلى توكيد بعد المحاورة. {لمرسلون} بلام التوكيد لأنه جواب عن إنكار، وهؤلاء أمة أنكرت النبوات بقولها: {وما أنزل الرحمن من شيء}، وراجعتهم الرسل بأن ردوا العلم إلى الله وقنعوا بعلمه، وأعلموهم أنهم إنما عليهم البلاغ فقط، وما عليهم من هداهم وضلالهم، وفي هذا وعيد لهم. ووصف البلاغ بالمبين، وهو الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت.
{قالوا إنا تطيرنا بكم}: أي تشاء منا. قال مقاتل: احتبس عليهم المطر. وقال آخر: أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل. قال ابن عطية: والظاهر أن تطير هؤلاء كان سبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس، وهذا على نحو تطير قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو ما خوطب به موسى عليه السلام. وقال الزمخشري: وذلك أنهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم، وعادة الجهال أن يتمنوا بكل شيء مالوا إليه واشتهوه وقبلته طباعهم، ويشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه، فإن أصابتهم نعمة أو بلاء قالوا: ببركة هذا وبشؤم هذا، كما حكى الله عن القبط: {وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} وعن مشركى مكة: {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} انتهى. وعن قتادة: إن أصابنا شيء كان من أجلكم. {لنرجمنكم} بالحجارة، قاله قتادة. {عذاب أليم}: هو الحريق.
{قالوا طائركم معكم}: أي حظكم وما صار لكم من خير أو شر معكم، أي من أفعالكم، ليس هو من أجلنا بل بكفركم. وقرأ الحسن، وابن هرمز، وعمرو بن عبيد، وزر بن حبيش: طيركم بياء ساكنة الطاء. وقرأ الحسن فيما نقل: اطيركم مصدر اطير الذي أصله تطير، فأدغمت التاء في الطاء، فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر. وقرأ الجمهور: طائركم على وزن فاعل. وقرأ الجمهور: {أئن ذكرتم} بهمزتين، الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة إن الشرطية، فخففها الكوفيون وابن عامر، وسهلها باقي السبعة. وقرأ زر: بهمزتين مفتوحتين، وهي قراءة أبي جعفر وطلحة، إلا أنها البناء الثانية بين بين. وقال الشاعر في تحقيقها:
أإن كنت داود بن أحوى مرحلاً ** فلست بداع لابن عمك محرماً

والماجشوني، وهو أبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبدالله بن أبي سلمة المدني: بهمزة واحدة مفتوحة؛ والحسن: بهاء مكسورة؛ وأبو عمرو في رواية، وزر أيضاً: بمدة قبل الهمزة المفتوحة، استثقل اجتماعهما ففضل بينهما بألف. وقرأ أبو جعفر أيضاً، والحسن أيضاً، وقتادة، وعيس الهمداني، والأعمش: أين بهمزة مفتوحة وياء ساكنة، وفتح النون ظرف مكان. وروي هذا عن عيسى الثقفي أيضاً. فالقراءة الأولى على معنى: إن ذكرتم تتطيرون، بجعل المحذوف مصب الاستفهام، على مذهب سيبويه، بجعله للشرط، على مذهب يونس؛ فإن قدرته مضارعاً كان مجزوماً. والقراءة الثانية على معنى: ألان ذكرتم تطيرتم، فإن مفعول من أجله، وكذلك الهمزة الواحدة المفتوحة والتي بمدة قبل الهمزة المفتوحة؛ وقراءة الهمزة المكسورة وحدها، فحرف شرط بمعنى الإخبار، أي إن ذكرتم تطيرتم. والقراءة الثانية الأخيرة أين فيها ظرف أداة الشرط، حذف جزاؤه للدلالة عليه وتقديره: أين ذكرتم صحبكم طائركم، ويدل عليه قوله: {طائركم معكم}. ومن جوز تقديم الجزاء على الشرط، وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد، يجوز أن يكون الجواب {طائركم معكم}، وكان أصله: أين ذكرتم فطائركم معكم، فاما قدم حذفت الفاء. وقرأ الجمهور: ذكرتم، بتشديد الكاف؛ وأبو جعفر، وخالد بن الياس، وطلحة، والحسن، وقتادة. وأبو حيوة، والأعمش من طريق زائدة، والأصمعي عن نافع: بتخفيفها. {بل أنتم قوم مسرفون}: مجاوزون الحد في ضلالكم، فمن ثم أتاكم الشؤم.
{وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} اسمه حبيب، قاله ابن عباس وأبو مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل. قيل: وهو ابن إسرائيل، وكان قصاراً، وقيل: إسكافاً، وقيل: كان ينحت الأصنام، ويمكن أن يكون جامعاً لهذه الصنائع.
و{من أقصى المدينة}: أي من أبعد مواضعها. فقيل: كان في خارج المدينة يعاني زرعاً له. وقيل: كان في غار يعبد ربه. وقيل: كان مجذوماً، فميزله أقصى باب من أبوابها، عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره. فلما دعاه للرسل إلى عبادة الله قال: هل من آية؟ قالوا: نعم، ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك، فقال: إن هذا لعجيب! لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع، يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: نعم، ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن. ودعوا ربهم، فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس. فأقبل على التكسب، فإذا مشى، تصدق بكسبه، نصف لعياله، ونصف يطعمه. فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال: {يا قوم اتبعوا المرسلين}. وحبيب هذا ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر، وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن بني غيره أحد إلا بعد ظهوره.
وقال ابن أبي ليلى: سباق الأمم ثلاثة، لم يكفروا قط طرفة عين: على بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون. وأورد الزمخشري قول ابن أبي ليلى حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم قبل من حاله أنه كان مجذوماً، عبد الأصنام سبعين سنة، فالله أعلم. وهنا تقدم: {من أقصى المدينة}، وفي القصص تأخر، وهو من التفنن في البلاغة. {رجل يسعى}: يمشي على قدميه. {قال يا قوم اتبعوا المرسلين}. الظاهر أنه لا يقول ذلك بعد تقدم إيمانه، كما سبق في قصة. وقيل: جاء عيسى وسمع قولهم وفهمه فيما فهمه. روي أنه تعقب أمرهم وسبره بأن قال لهم: أتطلبون أجراً على دعوتكم هذه؟ قالوا: لا، فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم، واحتج عليهم بقوله: {اتبعوا من لايسألكم أجراً وهم مهتدون}: أي وهم هدى من الله. أمرهم أولاً باتباع المرسلين، أي هم رسل الله إليكم فاتبعوهم، ثم أمرهم ثانياً بجمله جامعة في الترغيب، في كونهم لا ينقص منهم من حطام دنيانهم شيء، وفي كونهم يهتدون بهداهم، فيشتملون على خيري الدنيا والآخرة. وقد أجاز بعض النحويين في {من} أن تكون بدلاً من {المرسلين}، ظهر فيه العامل كما ظهر إذا كان حرف جر، كقوله تعالى: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم} والجمهور: لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب، بدلاً، بل يجعلون ذلك مخصوصاً بحرف الجر. وإذا كان الرافع والناصب، سموا ذلك بالتتبيع لا بالبدل. وفي قوله: {اتبعوا من لا يسألكم أجراً}، دليل على نقص من يأخذ أجراً على شيء من أفعال الشرع التي هي لازمة له، كالصلاة.
ولما أمرهم باتباع المرسلين، أخذ يبدي الدليل في اتباعهم وعبادة الله، فأبرزه في صورة نصحه لنفسه، وهو يريد نصحهم ليتلطف بهم ويراد بهم؛ ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، فوضح قوله: {ومالي لا أعبد الذين فطرني}، موضع: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟ ولذلك قال: {وإليه ترجعون}، ولولا أنه قصد ذلك لقال: وإليه أرجع.
ثم أتبع الكلام كذلك مخاطباً لنفسه فقال: {أأتخذ من دونه آلهة} قاصرة عن كل شيء، لا تنفع ولا تضر؟ فإن أرادكم الله بضر، وشفعت لكم، لم تنفع شفاعتهم، ولم يقدروا على إنقاذكم فيه، أولاً بانتفاء الجاه عن كون شفاعتهم لا تنفع، ثم ثانياً بانتفاء القدر. فعبر بانتفاء الإنقاذ عنه، إذ هو نتيجته. وفتح ياء المتكلم في يردني مع طلحة السمان، كذا في كتاب ابن عطية، وفي كتاب ابن خالويه طلحة بن مطرف، وعيسى الهمذاني، وأبو جعفر، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو. وقال الزمخشري: وقرئ إن يردني الرحمن بضر بمعنى: إن يجعلني مورداً للضر. انتهى. وهذا والله أعلم رأي في يكتب القراءات، يردني بفتح الياء، فتوهم أنها ياء المضارعة، فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية كالهمزة، فلذلك أدخل عليه همزة التعدية، ونصب به اثنين. والذي في كتب القراء الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطأ ونطقاً لالتقاء الساكنين. قال في كتاب ابن خالويه: بفتح ياء الإضافة. وقال في اللوامح: إن يردني الرحمن بالفتح، وهو أصل الياء عند البصرية، لكن هذه محذوفة، يعني البصرية، أي المثبتة بالخط البربري بالبصر، لكونها مكتوبة بخلاف المحذوفة خطأً ولفظاً، فلا ترى بالبصر. {إني إذا}، إن لم أعبد الذي فطرني واتخذت آلهة من دونه، في حيرة واضحة لكل ذي عقل صحيح.
ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق، فقال مخاطباً لقومه: {إني آمنت بربكم}: أي الذي كفرتم به، {فاسمعون}: أي اسمعوا قولي وأطيعون، فقد نبهتكم على الحق، وأن العبادة لا تكون إلا لمن منه نشأتكم وإليه مرجعكم. والظاهر أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو، وهو لقومه، والأمر على جهة المبالغة والتنبيه، قال ابن عباس وكعب ووهب. وقيل: خاطب بقوله {فاسمعون} الرسل، على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم. وقيل: الخطاب في {بربكم}، وفي {فاسمعون} للرسل. لما نصح قومه أخذوا يرجمونه، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل فقال ذلك، أي اسمعوا إيماني واشهدوا لي به.
{قيل أدخل الجنة}: ظاهره أن أمر حقيقي. وقيل: معناه وجبت لك الجنة، فهو خبر بأنه قد استحق دخولها، ولا يكون إلا بعد البعث، ولم يأت في القرآن أنه قتل. فقال الحسن: لما أراد قومه قتله، رفعه الله إلى السماء، فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السموات وهلاكه الجنة، فإذا أعاد الله الجنة دخلها. وقيل: لما قال ذلك، رفعوه إلى الملك، فطول معهم الكلام ليشغلهم عن قتل الرسل إلى أن صرح لهم بإيمانه، فوثبوا عليه فقتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قلبه من دبره وألقي في بئر، وهي الرس.
وقال السدي: رموه بالحجارة وهو يقول: «اللهم اهد قومي»، حتى مات. وقال الكلبي: رموه في حفرة، وردوا التراب عليه فمات. وعن الحسن: حرقوه حرقاً، وعلقوه في باب المدينة، وقبره في سور أنطاكية. وقيل: نشروه بالمناشير حتى خرج من بين رجليه. وعن قتادة: أدخله الله الجنة، وهو فيها حي يرزق. أراد قوله تعالى: {بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين} وفي النسخة التي طالعنا من تفسير ابن عطية ما نصه. وقرأ الجمهور: فاسمعون بفتح النون. قال أبو حاتم: هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر، فإما حذف النون، وإما كسرها على جهة البناء. انتهى، يعني ياء المتكلم والنون للوقاية. وقوله: وقرأ الجمهور وهم فاحش، ولا يكون، والله أعلم، إلا من الناسخ؛ بل القراء مجمعون فيما أعلم على كسر النون، سبعتهم وشواذهم، إلا ما روي عن عصمة عن عاصم من فتح النون، ذكره في الكامل مؤلف أبي القاسم الهذلي، ولعل ذلك وهم من عصمة. وقال ابن عطية: هنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات، وهو أنهم قتلوه، فقيل له عند موته: {ادخل الجنة}، وذلك، والله أعلم، بأن عرض عليه مقعده منها، وتحقق أنه من ساكنيها، فرأى ما أقر عينه، فلما حصل ذلك، تمنى أن يعلم قومه بذلك. انتهى. وقول: {قي ادخل الجنة} كأنه جواب لسائل عن حاله عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه فقيل: {ادخل الجنة}، ولم يأت التركيب: قيل له، لأنه معلوم أنه المخاطب، وتمنيه علم قومه بذلك هو مرتب على تقدير سؤال عن ما وجد من قوله عند ذلك استيفاقاً ونصحاً لهم، أي لو علموا ذلك لآمنوا بالله. وفي الحديث: «نصح قومه حياً وميتاً» وقيل: تمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ في أمره، وهو على صواب، فيندموا ويحزنهم ذلك ويبشر بذلك. وموجود في طباع النشر أن من أصاب خيراً في غير موطنه، ودَّ أن يعلم بذلك جيرانه وأترا به الذين نشأ فيهم. وبلغنا أن الوزير ذنك الدين المسيري، وكان وزيراً لملك مصر، راح إلى قريته التي كان منها، وهي مسير، وهي من أصغر قرى مصر، فقيل له في ذلك، فقال: أردت أن يراني عجائز مسير في هذه الحالة التي أنا فيها، قال الشاعر:
والعز مطلوب وملتمس ** وأحبه ما نيل في الوطن

والظاهر أن ما في قوله: {بما غفر لي ربي} مصدرية، جوزوا أن يكون بمعني الذي، والعائد محذوف تقديره: بالذي غفره لي ربي من الذنوب، وليس هذا بجيد، إذ يؤول إلى تمني علمهم بالذنوب المغفرة، والذي يحسن تمني علمهم بمغفرة ذنوبه وجعله من المكرمين.
وأجاز الفراء أن تكون ما استفهاماً. وقال الكسائي: لو صح هذا، يعني الاستفهام، لقال بم من غير ألف. وقال الفراء: يجوز أن يقال بما بالألف، وأنشد فيه أبياتاً. وقال الزمخشري: ويحتمل أن تكون استفهامية، يعني بأي شيء غفر لي ربي، يريد ما كان منه معهم من المصابرة لاعزاز دين الله حتى قيل: إن قولك {بما غفر لي ربي} يريد ما كان منه معهم بطرح الألف أجود، وإن كان إثباتها جائزاً فقال: قد علمت بما صنعت هذا وبم صنعت. انتهى. والمشهور أن إثبات الألف في ما الاستفهامية، إذا دخل عليها حرف جر، مختص بالضرورة، نحو قوله:
على ما قام يشتمني لئيم ** كخنزير تمرغ في رماد

وحذفها هو المعروف في الكلام، نحو قوله:
على م يقول الرمح يثقل كاهلي ** إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت

وقرئ: من المكرمين، مشدد الراء مفتوح الكاف؛ والجمهور: بإسكان الكاف وتخفيف الراء.